بعد السد العالي مصر تبني السد الواطي

بعدالسد العالي..

مصر

تبني السد "الواطي"..!



بقلم الدكتور محمد يحيى برزق

يثور هذه الأيام جدل متصاعد حول السد الحديدي الذي شرعت حكومة الحزب الوطني الحاكم في مصر ببنائه على طول حدودها الشرقية, بينها و بين غزة و التي يبلغ طولها خمسة عشر كيلومترا.. ثاني سد من نوعه في التاريخ بعد السد الذي بناه ذو القرنين ليمنع أذى قوم يأجوج و مأجوج المفسدين عن القوم المؤمنين حسب ما جاء في سورة الكهف في القرآن الكريم, مع فرق بسيط هو أن سد يأجوج و مأجوج فوق الأرض أما السد المصري الجديد تحت الأرض.. و المثير في الموضوع هو أن الحكومة المصرية كانت على غير عادتها و عادة العرب عندما يفكرون في عمل شيء ما في "المستقبل"!ّ لم تملأ الأرض و السماء صياحا بل بدأت بالعمل بصمت حتى فوجئ سكان المنطقة المجاورة للحدود بآلات عملاقة لم يرو لها مثيلا في حياتهم تعمل على مدار الساعة.. إنها تدق في الأرض عوارض فولاذية بطول 20-30 مترا وعرض نصف متر و بسمك خمسة سنتيمترات، و حول الهدف منه, فإن ما يتردد في الإعلام عن المسئولين في مصر لا يعدو أن يكون مجرد كلام عن استقلال و سيادة و حرية و كرامة و أمن مصر مع تأكيدهم أنه ليس لخنق الناس في غزة.. كلام هو أقرب للأضاليل المفبركة التي تملأ الإعلام الحكومي الجاهز دائما لتجميل و تسويق أي شيء تريده حكومة الح$ الحاكم.. لكن لم يصدر موقف رسمي متماسك يفصّل في الأسباب و الأهداف, فلماذا هذا التكتم المصري حول هذا الموضوع؟

لقد كان بناء السد العالي في زمن الرئيس عبد الناصر حدثا تاريخيا خالدا لا يقل في أهميته عن حدث استقلال مصر نفسها لأنه جاء ليدعم الاكتفاء الذاتي و يحمي الأمن الاقتصادي و يؤكد حرية مصر و يفرض سيادتها و هيبتها بين الدول, الأمر الذي جعل من يوم افتتاح السد العالي عيدا وطنيا و قوميا غنّته حناجر المصريين و رددته معهم كل القلوب نشيدا خالدا:

"قلنا حنبني و دحنا بنينا السد العالي.. يا استعمار بإدينا بنينا السد العالي.. من أموالنا بإيد عمالنا.. هي الكلمة وا دحنا بنينا..."

هل سيعيد الشعب المصري إنشاد أغنية السد العالي الخالدة احتفالا بهذا السد "الواطي".. و لو بذريعة أن مصر حرة في أن تفعل في أرضها ما تشاء؟

لم يكن بناء السد العالي فرحة للمصريين فقط بل لكل من يحب مصر و يكره أعداءها, أما هذا "الواطي" من سيحتفل به غير أعداء المصريين و الفلسطينيين و العرب و البشر أجمعين؟

أما بالنسبة لحرية مصر فهذا أمر لا جدال فيه, لكن مصر كانت حرة يوم بنت السد العالي و هي ما زالت حرة اليوم و هي تبني هذا السد الواطي فهل يمكن أن نساوي بين الحرية التي بنت السد العالي و هذه الحرية التي تحفر للسد الواطي؟

- هناك مسئولية أخلاقية يجب على الحر العاقل و المسئول أن يلتزم بها و إلا تحولت هذه الحرية إلى عربدة و شذوذ.. فلا فضيلة للحرية بدون مسئولية.. و لا يعقل أن نساوي بين من يختار الكفر و من يختار الإيمان و بين الذي يختار الأخلاق و ذاك الذي اختار العهر و الإباحية و كذلك الحال بين من يختار أن يكون عادلا أو ظالما و غدارا أو أمينا وطنيا أم خائنا, ثابتا على الحق أو مرتدا.. إنها أضّاد لا يجوز لعاقل أن يساوي بينها و لابد من أن يبقى العقل مهيمنا ليكون استعمال الحرية حكيما.. فإذا سمحت لحريتك أن تحركك بدون تدخل العقل فكأنما تستقل سيارة بدون كوابح سرعان ما تودي بك إلى الهلاك و عندما تختار لا تنس أنك محاط بعيون ناقدة تقيمك و تحكم عليك فإن نظرت إليك نظرة لا تسرك فلا تلم الناس و لم نفسك لأن الناس مفطورون على احترام من يهمه احترام الناس له أما هذا الذي لا يبالي باحترام الناس له فيصدق فيه القول"إذا لم تستح فاصنع ما شئت.. " أي أن الذي يفعل ما يشاء ليس سوى داعر عاهر لا يستحي و حاشى أن يقال أن مصر الحبيبة, كنانة الله, عاهرة لا تستحي, تفعل بنفسها ما تشاء.. إن العاهر الذي لا يستحي هو هذا الحزب "الوطني" الذي قذف بأم الدنيا في حمئة البغاء لتركع على أحذية أربابهم اليهود و الأمريكان و باقي أفراد عصابة الاستعمار التاريخية انتهت مشاكل الشعب المصري و لم يبق إلا هذه الأنفاق, "شريان الحياة الوحيد للمحاصرين في غزة" حسب ما ورد على لسان الأمين العام للأمم المتحدة قبل ثلاث سنوات.. لمّا لم يأت إغلاق معبر رفح.شريان الحياة فوق الأرض بالنتائج المرجوة بتركيع حماس لتعلن اعترافها بإسرائيل و قبولها باتفاقيات و مبادرات الكفر و الردة.. ها هي حكومة الح$ الإجرامي الحاكم تسارع في بناء "سور مصر العظيم!" تحت الأرض لتقطع آخر شرايين غزة. هكذا تكون مصر دولة مستقلة ذات سيادة و حق من حقوقها أن تفعل في حدودها ما تشاء.الحكومة المصرية وبتأييد من القانون و الشرعية الدوليين حرة في تقدير مصالحها الوطنية.. تماما مثل أي دولة مستقلة وذات سيادة فهي, دون غيرها, تعرف مصلحة الشعب المصري وتنفذ كل المشاريع والخطط التي ترفع من شأنه وتفك أزماته..

لقد رأت حكومة العصابة الحاكمة في مصر أن الأمن القومي المصري في خطر وقد يترتب على ذلك كوارث اقتصادية لا قبل للشعب المصري في مواجهتها أو تحمل أعبائها.. و السبب الوحيد هو أنفاق غزة

وبما أن هذه الحكومة "الوطنية" مسئولة عن أمن الشعب.. فكل شيء يهون في سبيل حماية هذا الشعب. لم تتردد هذه الحكومة في المصادقة على أغرب وأعجب مشروع في التاريخ.. لم تأخذها في قرارها هذا لومة لائم لأن مصلحة الشعب فيها أهم من كل نقد أو لوم.

لقد سعت الحكومة لأن يكون كل ذلك من وراء الكواليس, تماما كما نفعل بالهدايا, ليكون له وقع المفاجأة على الشعب, كأنه هدية بابا نويل في عيد الميلاد... يقدمها هذا النظام الوطني جدا لهذا الشعب الطيب جدا.. افرح يا شعب مصر ستنتهي كل مشاكلك بفضل سور مصر الجديد و سينتهي تهريب الطحين الأمريكي والسكر الأمريكي.. لن تكون هناك أزمة خبز ولا سكر.. يا لها من هدية عيد ميلاد ثمينة, فتكلفة الخازوق الواحد (يغطي 50سم فقط من الحدود) لا تقل عن 100 إلى 150 ألف دولار من بداية تصنيعه في أمريكا آخر الدنيا إلى أن يصل إلى أم الدنيا لينقل بعدها إلى حدود غزة ويزرع هناك.

طول المسافة التي ستدق فيها الخوازيق الضخمة 15كم أي أنها تحتاج إلى أكثر من 25 ألف خازوق لإتمام الجدار الخارق وعلى فرض أن تكلفة الخازوق الواحد فقط 100ألف دولار تكون تكلفة سور مصر مليارين و نصف مليار دولار على الأقل.

إن ما يكتبه أحرار مصر أقوى وأهم وأعظم مما أكتب في هذا الجانب من الموضوع فهم أعلم مني بمصلحة مصر وحكومة مصر ولن أعتبر ما أكتب زيادة على ما يقولون ويكتبون وإنني إذ أكتب في هذا الاتجاه فلأني أتقرب إلى الله بحب مصر وأهل مصر ولا يمكن لي كإنسان قبل أن أكون مسلما أو عربيا أو فلسطينيا أن أصدق أن هذه الخوازيق العملاقة يمكن أن تكون في مصلحة أي من الشعبين. إن ألد الأعداء لم يفكروا ببناء حدود حديدية بينهم لأنهم يعلمون أن العداء حالة طارئة يجب أن تزول فأي عداء هذا الذي بين غزة والحزب الوطني الحاكم في مصر الذي دفعته لبناء هذا الأفق الكئيب؟ لا أعرف كيف سيتمكن هذا الح$ من إقناع أهلنا في مصر الذين يعانون أكثر من أي شعب عربي من أزمات مزمنة كبرى اضطرت قطاعات واسعة منهم للسكن في المزابل والمقابر والشوارع وأخيرا في شبكات المجاري..؟ كيف سيقنعون الناس بمصلحتهم من هذا الجنون الحديدي؟

قبل أن أختم مقالي.. أتساءل من صاحب فكرة هذا الجدار؟ هل هو مصر؟ من يمول هذا الجدار؟ إن الأهرامات قامت بفكرة مصرية وتمويل مصري رغم الجدل القائم حول وظيفتها و كذلك كان السد العالي... لكن ما تسرب من معلومات ما انفكت وسائل الإعلام تؤكدها هو أن المشروع من أوله لآخره فكرة وتمويلا أمريكي مائة بالمائة ولا علاقة له بسيادة مصر من قريب أو بعيد.

ختاما أتمنى من كل قلبي أن يكون هذا المشروع الغريب في مصلحة الشعب المصري سواء كان مصريا بحتا أو حتى أمريكيا بحتا أما بالنسبة لنا كشعب فلسطيني فإن شاء الله سيجعل لنا من أمرنا فرجا و مخرجا وسوف لن يعدم هذا الشعب وسيلة لنقب هذا الفولاذ وسيعلم العالم أن عزيمة شعبنا أقوى و أعلى من فولاذ السد الواطي.

--------------------------------------------------------------------------------